تحميل كتاب ماركس ضد نيتشه الطريق الي ما بعد الحداثة PDF
معلومات عن كتاب : ماركس ضد نيتشه
ماركس ضد نيتشه الطريق الي ما بعد الحداثة د. محمد دوير الطبعة الأولــي: 2020
الطبعة الثانية: 2021
الطبعة الثالثة: 2022
رقم الإيداع: 17443/ 2019
تصميم الغلاف: الفنان شهاب حسن
مقدمة الحديث عن ماركس ونيتشه :
ليس حوارا بين فيلسوفين فحسب، وإنما هو بحث في امتداد فلسفتهما في الفضاء الثقافي العالمي، وبحث في تجليات أعمالهما في إبداعات المفكرين اللاحقين بهما، سواء أكانوا مفسرين أو نقادا، بهدف إخضاع المقولات الفلسفية لدى كل منهما إلى وضعيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية خضوعا لا يقارن بحسب القيمة الفلسفية والأصالة الفكرية والمنهجية العلمية فحسب، وإنما بالدور الذي لعبته السياقات المختلفة في توظيف المنتج الفلسفي لصالح الصراع الاجتماعي أو التفكك الإنساني والتشظي المعرفي.
تلك المهمة التي تصدت لها الفلسفة في التاريخ الحديث؛ مهمة التعبير عن صراع القوي والدعوة للتغيير وضرب سلطة الرأسمال وتجلياتها، أو توجيه المسار الثقافي نحو ضرب سلطة العقل. ولذلك فنحن طوال الوقت نمارس الصراع الفكري، أو التضاد الايديولوجي بأسلحة مختلفة وأدوات تتغير بحسب مستوي التطور العلمي والاجتماعي.
وقد جاءت تلك الضدية بالأساس انطلاقا من رؤية أعتقد فيها وأعتنقها، وهي أن كارل ماركس كان صوت سلب البرجوازية، أي صوت الطبقة العاملة، وصوت هؤلاء الذين يقفون في مواجهة الاستلاب الاقتصادي، والاغتراب الانساني، وانتهاك موارد الطبيعة من أجل تعظيم شئون القوة، وتدمير البيئة؛ وما يتبع هذا السلب من خصائص متباينة سحبت خلفها مقولات فلسفية عديدة ظهر بعضها في كتابات ماركس نفسه؛ كالاغتراب والقيمة الزائدة والتفسير المادي للتاريخ ونظرية الثورة وفلسفتها ووظيفة الفلسفة ودورها في الحياة الإنسانية، والبعض الآخر في كتابات المفكرين الماركسيين الذين استكملوا مسيرة نقد الرأسمالية والدعوة لتجاوزها.
وبالتضاد من ذلك، فإن فريدريك نيتشه كان صوت سلب العقل والعقلانية والحداثة ومقوماتها، وما يتبع هذا السلب من نتائج تكشف عن نفسها في معظم الدراسات الثقافية المعاصرة، التي هيمنت عليها دراسات ما بعد الحداثة، بكل ما تتضمنه من سعي حثيث لضرب كل سلطة تراكمت في الخبرة الانسانية في مرحلة الحداثة وما قبلها. ولم يكن ماركس في ذاته هو هدف هذا الكتاب، وإن جاء عنوانه مقتصرا عليه دون ذكر كلمة "الماركسية" كصفة تعبر عن اتجاه فكري ظهر بوضوح في لحظة حاسمة من لحظات تطور الرأسمالية، ولكننا قصدنا - تيار الماركسية بشكل عام - في مواجهة تيار البرجوازية أو الليبرالية أو الحرية الفكرية التي تبناها النظام الرأسمالي، ذلك النظام الذي تبني رؤية نيتشه وفلسفته، تلك الفلسفة التي ظلت تمر بمراحل انشطار وتشظي حتى صارت من خلال كتاباته ذاتها وتوابعها لاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين؛ هي عنوان المرحلة التي نعيشها الآن وفي تقديري أن ثنائية ماركس/ نيتشه ستستمر معنا في القرن الحالي "الحادي والعشرين"، وربما بصورة أكثر وضوحا من ذي قبل، ذلك أن الماركسية أثبتت قدرة فائقة على التعامل مع متغيرات الواقع، وأن النيتشوية عبرت بوضوح عن الطور المعاصر للرأسمالية العالمية، رأسمالية المستهلكبحسب فريدريك جيمسونالتي توافقت تماما مع نظرية سلطة القارئ بوصفه زبونا مستهلكا للمنتج/ للنص، أي جزءا من تدوير حركة رأس المال بالمعنى الاقتصادي.
فالقرن الحالي إذن هو قرن التضاد والصراع الفكري بين النيتشوية والماركسية، تضاد يصل إلى حد النفي، بوصف النيتشوية مشروعا يهدم معظم المحددات الفكرية للحداثة، بل وللتاريخ الفلسفي المكتوب، في مقابل الماركسية التي يمكن رؤيتها كمشروع فكري يبحث في ساحة الوعي الاجتماعي ومعطاه الواقعي. إنه-إذنتضاد وصراع بين الإنسان كقوة عمل والإنسان المعاصر كهيولي للإنسان الأعلى. بين فيزيقيا الإنسان الذي يعتبره ماركس جزءا من الطبيعة، وميتافيزيقا الإنسان الذي ينشده نيتشه في المستقبل.
هو صراع بين الإنسان في سعيه الثوري لتحقيق ذاته، والإنسان في سعيه الإرادوي لنفي وجوده الزائف وخلق وجوده الحقيقي بإرادة القوة بين الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا والإنسان بوصفه ذاتا متفردة غير قابلة للاندماج أو الانقسام. وفي اعتقادي أن الخلاف أو التضاد أو المواجهة بين ماركس ونيتشه غير مسبوقة– على الأقل في المكتبة العربية حتى الآنفكثيرون هم الذين يضعون ماركس في مواجهة هيجل بوصفهما طرفي نقيض في نظرية المعرفة والموقف الانطولوجي. كثيرون أيضا هم من يضعون ماركس في تضاد مع منظري ومؤسسي الاقتصاد السياسي الرأسمالي كآدم سميث وريكاردو باعتبار أن فلسفة الاقتصاد السياسي هي محور النظرية الماركسية.
وهناك من يتعاطى مع المقولة الماركسية من بؤرة التفسير المادي للتاريخ كنقض ونقد لأفكار ونظريات فلاسفة التاريخ الذين تناولوا التاريخ تناولا ميتافيزيقيا كالقديس أوغسطين، أو فيكو أو روسو أو هيجل.. الخ. وثمة من يضع ماركس في مواجهة مع مدارس علم الاجتماع كالوظيفية أو الوضعية، أي في مواجهة بارسونز وكونت، وهو ما دفع مفكر مثل "بوتو مور" لأن يتساءل في حلقة دراسية عقدها بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1965، هل ماركس عالم اجتماع أم ماركسي؟ وجعل ألتوسير يتساءل هل ماركس هيجلي أم فورباخي أم ماركسي؟ في مقابل ذلك سنجد أننا أمام مفسرين يختزلون نيتشه في مقولته الفلسفية دون الانشغال بمحيطها الثقافي المنتج لها، وتحررها من كل قيمة اجتماعية، واحتفائها برمزية الإنسان الأعلى كهدف استراتيجي لمستقبل العالم، ومن ثم جاءت تفسيرات المفسرين والشُرَّاح منغلقة على البحث الفلسفي واللغوي لمؤلفات نيتشه بوصفها أيقونات أشبه بتعاليم الكتب المقدسة، مما انعدم معها– ومن خلالهم– أية تحقق موضوعي لفلسفة نيتشه التي ظلت تحلق في فضاء العقل "الرأسمالي" بعيدا عن احتياجات البشر المباشرة في الحياة. وبناء على ذلك، سينحو هذا الكتاب إلى منطقة معرفية أخري تبحث في تلك العلاقة بين ماركس ونيتشه، لقد بزغ نجم ماركس من لب الفلسفة والاقتصاد السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. وكل فريق من هؤلاء يبحث عنه في موقف نقدي أو تطوري أو تحليلي أو كشف بنيوي، محاولا بيان حقيقة العالم، وإدراك عقلانية الوجود.
نعم، لقد قال ماركس: "إن رأس المال هو شاهد قبري"، ولا شك أن الحديث عن ماركس يجب ألا يتجاهل إسهامه العبقري في الاقتصاد السياسي، بيد أن الحضور الماركسي طوال مائتي عام يؤكد على أن أثره لم يقتصر علي تخصص دون آخر، وعلم دون غيره من العلوم الإنسانية، بل لا يتوقف عند حدود ما طرحه من أفكار في مؤلفاته، فقد خضعت المقولة الماركسية لأكبر عمليات تفسير وتأويل وشرح وتناول وتفاعل، وفي حدود درايتي الشخصية أنه ليس هناك من مفكر أو فيلسوف في التاريخ القديم أو الحديث انتشرت مؤلفاته وذاعت أفكاره بالقدر الذي حظيت به المقولة الماركسية، حتى أرسطو نفسه، الذي ظل موضوعا للدرس الفلسفي على مدار ألفي عام تقريبا؛ لم يحظ تاريخيا بتلك المكانة في الانتشار التي حظي بها ماركس، فمؤلفات ماركس ظلت بين أيدي الجميع بدءا من كبار المفكرين في كل أنحاء العالم وحتى صبية مدارس الثانوية في أصقاع الأرض.
الفصل الأول:
فلسفة جديدة لعالم متغير التضاد الذاتي
أولا: القرن التاسع عشر :
ثمة مقولة تذهب إلى أن القرن التاسع عشر كتب، والقرنين العشرين والواحد والعشرين تفسيرٌ وشرحٌ له. فالقرن التاسع عشر هو قرن الأيديولوجيات، وعصر هيمنة العلم والآلة على الحياة، وعصر الأفكار الكبرى والنظريات الشاملة، وهو العصر الذي بدأ بموت كانط وانتهى بموت نيتشه، وشهد إنتاج ماركس الفكري، وهو ميدان الصراع الكبير الذي دار بين حركتي التنوير والرومانتيكية، بين الوضعية والروحية. هو الأب الشرعي للقرن العشرين، ومؤسس مقولاته، وكأن القرن العشرين هذا امتدادٌ للقرن التاسع عشر وتطبيقٌ عمليٌ لمقولاته النظرية، ويبدو أننا نسير في القرن الواحد والعشرين على نفس درب القرن العشرين من إحياء أفكار القرن التاسع عشر، فلماذا صار هذا القرن هو نقطة ارتكاز وتحول وواسطة العقد بين القرون الخمسة التي هيمنت فيها الرأسمالية على العالم؟ والواقع أنه بينما عُرِف القرن السابع عشر بأنه عصر المنهج والرياضيات، والقرن الثامن عشر بقرن الفلسفة والتنوير؛ كان القرن التاسع عشر هو عصر علم الأحياء والايديولوجيات، فيما كان القرن العشرين هو قرن الخوف والحروب والقتل، وأسوأ مراحل توظيف العلم في الاستغلال والاستلاب مما جعل إريك فروم Erich Fromm "1900-1980" يصفه بأنه قرن المحاكمة، أي محاكمة النظم الرأسمالية لنفسها، وتنفيذ الأحكام على نفسها بالحديد والنار، أي بالحربين العالميتين. أما القرن الواحد والعشرونحتى الآنفهو قرن اختلال منظومات القيم وانسحاق الأفراد لصالح نمط الحياة الغربي، وتآكل الهويات الثقافية، والاضطرابات النفسية، وتراجع دور النظرية والهيكل الهرمي في المعرفة، على الأقل في الثقافة الغربية، بينما ظلت ظاهرة الإسلام السياسي في جوهرها ومظهرها، في الثقافة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموما؛ تعبيرًا زائفا عن مقاومة الآخر، وفي الوقت نفسه عن انزياح إنساني نحو بناء عالم يبرر الظلم والاستبداد بأكثر من منطق، إما للدفاع عن الهوية الوطنية أو الحفاظ على الثوابت الدينية.
ثانيا: ماركس.. سيرة حياة ومسيرة فكر :
حقق الإنسان تقدما هائلا في السعي نحو فك شفرات الكون بفضل نظريات العلم. ولكن تظل عمليات الاستغلال واستلاب الإنسان للإنسان إحدى أكبر المعوقات التي تمنع الإنسان من اكتمال أو نضج سمته الإنسانية. ومن هنا كانت الماركسية -كرؤية وطرح نظريضرورة تاريخية، ونعني تحديدا: أنه إذا كانت نظرية العلم قد انشغلت بفك شفرات الكون، وتنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة، فإنها بذلك قد شكلت الضلع الأول من مسعى الإنسان لتحقيق إنسانيته، بينما يتشكل الضلع الثاني من علاقة الإنسان بالماوراء وسؤال الوجود، وقد انشغلت الميثولوجيا والفلسفات الكبرى بالإجابة عن هذا التساؤل، أما عن علاقة الإنسان بنفسه فقد أجابت عنها الأديان والفلسفات ولكنها اتخذت صورتها العلمية مع نظريات علم النفس، ليبقي البعد أو الضلع الرابع متعلقا بعلاقة الإنسان بالإنسان، وقد تناولت أفكار وفلسفات وأديان هذه العلاقة، ولكن تبقى الماركسية هي التي وضعت تلك العلاقة في صورتها العلمية والفلسفية من خلال كشفها لأصل وتاريخ وطبيعة الصراع بين الإنسان والإنسان، وقدمت صياغة متجددة للتفسير المادي للتاريخ تكشف عن حدود تلك العلاقة وكيفية التخلص منها. لقد وعى ماركس أن التقدم الاجتماعي وطريق التحرر يمر عبر مسارين أو مرحلتين: الأول، هو عدة التقنية والتطور الصناعي القائم عليها عاملا ممهدا أساسيا في تحرر الإنسان وتقدم التاريخ بفضل استغلال موارد الطبيعة بشكل أمثل. والثاني، هو اشتراط الثورة الاشتراكية التي تقلب طبيعة علاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، التي من دونها ستظل قوى الإنتاج مهما بلغ التطور التقني والعلمي بالضد من الإنسان ومنتجه للانشقاق بين مصلحة العمال والرأسمال2.
لتحميل الكتاب اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق